خلال العقد الأخير، أخذ صنّاع السياسة، والمشرعون، والمشاركون في السوق حول العالم، أخذوا يؤكدون وبشكل متزايد على الحاجة إلى تطوير سياسات وممارسات القيادة والحوكمة المؤسسية. وتشير الكثير من الأدلة التجريبية إلى أن الحوكمة المؤسسية الجيدة تساهم في تحقيق التنافس، وتسهّل من وصول المؤسسة إلى أسواق رأس المال، وهكذا تساعد في تطوير الأسواق المالية ودفع عجلة النمو الاقتصادي.
أن أساس القيادة والحوكمة الفعالة هو النزاهة الفكرية لدى المدراء والإدارة العليا، حيث يتم التعبير عن هذه النزاهة الفكرية من خلال العمل بما يحقق أفضل مصالح الشركة. فالشركة، عند تشكيلها، هي عبارة عن شخص، لكنها تكون غير مفعّلة لحين يتم تعيين مدراءها، ويقوم مجلس الإدارة بدوره بتفويض عملية تنفيذ قراراتها الجماعية إلى إدارة الشركة.
وهنا تكون نوعية أو جودة الحوكمة هي المهمة وليس كميتها؛ وان الالتزام من دون تفكّر بمجموعة الأحكام والقواعد لا يعتبر حوكمة جيدة، بل أن الحوكمة الجيدة تعني العمل بمسئولية ومحاسبة وعدالة وشفافية. وللشفافية تأثير كبير جداً على سوء السلوك، وإنها تعد حرجة جداً في توصيل أي من قرارات مجلس الإدارة إلى المتعاملين. وفي هذا السياق، تتطلب الشفافية أن تتكون الاتصالات من شكل ومضمون وتحتوي على جوانب ايجابية وسلبية، إن وجدت.
وفي الوقت الحاضر، يضع المستثمرون المحليون والخارجيون تأكيد اكبر على طريقة تشغيل المحركات وتفعيلها وكيف يستجيبوا لاحتياجاتها وطلباتها. ودائما ما تكون لدى المستثمرين الرغبة المتزايدة في التعامل أكثر مع الشركات ذات الحوكمة الجيدة والتي تلتزم وتتقيد بممارسات المجلس الجيدة، وتهتم بجانب الإفصاح عن المعلومات والشفافية المالية، وتحترم حقوق المساهمين. كما أن الشركات التي تتمتع بنظام حوكمة جيد تكون في أفضل وضع للقيام بمسئولياتها الاقتصادية، والبيئية والاجتماعية، والمساهمة بالنمو المستدام.
ويمكن للتحسين في ممارسات الحوكمة المؤسسية أن يرفع من مستوى عملية صناعة القرار ضمن الجهات الحاكمة في الشركة وفيما بينها، وهكذا يجب أن يعزز من مستوى كفاءة العمليات المالية والمهنية. كما أن تحسين الحوكمة المؤسسية يؤدي أيضا إلى تحسين في نظام المساءلة/ المحاسبة، بما يقلل من مخاطرة الاحتيال أو الصفقات الشخصية من قبل مسئولي الشركة. ونظام الحوكمة الفعال يجب أن يساعد في ضمان الالتزام بالتعليمات والقوانين النافذة، وهكذا يسمح للشركات أن تتفادى الدعاوي أو القضايا القانونية المكلِفة. كما يجب أن تحقق الشركات منفعة وفائدة من تحسين مكانتها وسمعتها، محلياً وفي المجتمع الدولي.
والآن، وبعد أن أصبحت الاستدامة تشكل الحقيقة والضرورة الأخلاقية والاقتصادية للقرن الحادي والعشرين، أصبحت الحوكمة والإستراتجية والاستدامة عناصر متلازمة فيما بينها. ولابد للإستراتيجية البعيدة المدى، أن تهتم بخمسة جوانب رأسمالية من قبل مجلس إدارة الشركة وهي: الجوانب المالية، والبشرية، والاجتماعية، والبيئية، والصناعية/التقنية. كما لابد للتقارير التي ترفع إلى المتعاملين أن تحتوي على انعكاسات عمل الشركة على المجتمع اقتصادياً، واجتماعياً وبيئياً. وفي الوقت الذي من واجب المدراء أن يخاطروا من اجل الحصول على المكافئات، لابد لهم أن يتأكدوا من تطبيق مبادئ الحوكمة الجيدة عند خوضهم المخاطر لأجل المكافئات؛ فالحوكمة الجيدة تجذب رأس المال، في حين أن الحوكمة الرديئة تطرد رأس المال، علماً أن رأس المال أصبح مورِد نادر في هذا العالم الفسيح المفتوح الحدود والذي بنقرة واحدة على ماوس الحاسوب، يمكن لرأس المال أن يغادر السوق ويدمـره.
الغرض
هدف الشركات هو تطوير قيمة مستدامة للمساهمين على المدى البعيد؛ وتشير الاستدامة ضمناً إلى أن الشركة يجب أن تدير نظام الحوكمة بشكل فعال، بالإضافة إلى فاعلية إدارة الجوانب الاجتماعية والبيئية لنشاطاتها، وكذلك الجوانب المالية. وتحتاج كل شركة، مع مرور الوقت، إلى تطوير عائد على رأس المال المستثمر فيها أكثر من الكلفة التي تترتب عليه.
وسوف تنجح الشركات في تحقيق ذلك على المدى البعيد فقط إذا ما كان تركيزها على العوائد الاقتصادية وتخطيطها الاستراتيجي البعيد المدى يتضمن الإدارة الفاعلة لعلاقاتها مع المتعاملين كالموظفين والموردين والعملاء والمجتمعات المحلية والبيئة ككل.
والغرض الأساسي من القيادة والحوكمة المؤسسية هو خلق الثروة بصورة قانونية وأخلاقية؛ وهذا يترجَم من خلال تحقيق مستوى عالي من الرضا لخمسة فئات وهي: العملاء، والموظفين، والمستثمرين، والبائعين، والمجتمع بشكل عام. وتجدر الإشارة إلى أن مبرر كل جهة مؤسسية هو ضمان إمكانية التنبؤ بالإيرادات واستدامتها وربحيتها سنة بعد أخرى.
مجال التطبيق
لا يوجد هناك تعريف وحيد للقيادة والحوكمة بحيث يمكن تطبيقه على جميع المواقف والأوضاع، علماً أن مختلف التعاريف الموجودة اليوم تعتمد إلى حد كبير على المؤسسة أو على صانع التعريف نفسه، فضلاً عن التقاليد القانونية والأعراف المعتمدة في البلد، غير أن معظم التعاريف التي تركز على الشركة نفسها (المنظور الداخلي) تشترك بعناصر معينة يمكن تلخيصها كما يلي:
القيادة والحوكمة هي منظور علاقات تعرِّفها الهياكل والعمليات: على سبيل المثال، أن العلاقة بين المساهمين والإدارة تشتمل على توفير المساهمين لرأس المال إلى الإدارة من اجل تحقيق عائد معين على استثمارهم. ويتعين على المدراء، بدورهم، تزويد المساهمين بالتقارير المالية والتشغيلية بشكل منتظم وبأسلوب شفاف. كما ويقوم المساهمون بانتخاب هيئة إشرافية غالبا ما يشار لها باسم مجلس الإدارة أو المجلس الإشرافي، لتمثيل مصالحهم. وهذه الجهة، من حيث الأساس، توفر الاتجاه الاستراتيجي لمدراء الشركة ورقابتها عليهم. فيكون المدراء مسئولين أمام هذه الجهة الإشرافية التي، بدورها، تكون مسئولة أمام المساهمين من خلال الاجتماع العام للمساهمين. هذا وان الهياكل والعمليات التي تعرِّف هذه العلاقات تركز على مختلف آليات إعداد التقارير وإدارة الأداء.
يمكن أن تشتمل هذه العلاقات على أطراف لديها اهتمامات ومصالح مختلفة وأحياناً متضاربة: يمكن أن توجد هناك مصالح واهتمامات مختلفة بين الجهات الرئيسية الحاكمة في المؤسسة (بمعنى المجلس الإشرافي والمدير العام أو الجهات التنفيذية الأخرى(المدراء) ). وعادة ما توجد المصالح المتضاربة بين المالكين والمدراء ويشار لها بشكل شائع باسم المشكلة ما بين صاحب رأس المال والوكيل. وقد توجد صراعات أيضا ضمن كل جهة حاكمة، كتلك الصراعات ما بين المساهمين والمدراء؛ وهنا لابد من أن تكون هناك دراسة دقيقة ومتوازنة لكل جانب من جوانب هذه المصالح المتضاربة.
مشاركة جميع الأطراف في توجيه ورقابة الشركة: الاجتماع العام للمساهمين، والذي يمثل المساهمين، يتخذ قرارات أساسية وجوهرية، كتوزيع الأرباح والخسائر، على سبيل المثال. فالمجلس الإشرافي مسئول بشكل عام عن التوجيه والإشراف، وتحديد إستراتيجية الشركة، ورقابة المدراء. ويقوم المدراء التنفيذيون، في النهاية، بإدارة العمليات اليومية كتنفيذ الإستراتيجية، وصياغة مسودات خطط العمل، وإدارة الموارد البشرية، وإعداد وتطوير استراتيجيات التسويق والبيع، وإدارة الموجودات.
القيام بكل ذلك من اجل توزيع الحقوق والمسئوليات بشكل مناسب- وهكذا زيادة القيمة البعيدة المدى للمساهمين: على سبيل المثال، كيف يتسنى للمساهمين الخارجيين الذين يمثلون أقلية أن يمنعوا المساهم المهيمن من تحقيق الفوائد من خلال عمليات الطرف المعني أو أية وسائل مماثلة.
وتوجد هناك ثلاثة أنواع من الحوكمة التي تتضمن الحوكمة كقيادة:
النوع الائتماني، الذي تعنى فيه المجالس أساساً بعهدة أو إدارة الموجودات الملموسة؛
النوع الاستراتيجي، الذي تحرص فيه المجالس على إنشاء شراكة إستراتيجية مع الإدارة؛
النوع التوليدي، الذي توفر فيه المجالس مصدر قيادة اقل تميزاً لكنه مصدر حرج للمؤسسة.
ويؤكد كل نوع من هذه الأنواع على جوانب مختلفة للحوكمة ويستند على افتراضات مختلفة حول طبيعة المؤسسات والقيادة. غير أن جميع هذه الأنواع الثلاثة مهمة على حدٍ سواء، حيث أن كل واحد منها يلبي أغراض حيوية مهمة، علماً أن النوعين الأول والثاني هما حالياً النوعين المهيمنين من أنواع الحوكمة غير الربحية؛ وان النوع الثالث هو النوع الأقل ممارسة واقل تطبيق.
ويشكل النوع الأول الحجر الأساس للحوكمة- وهو العمل الائتماني الذي تكون الغاية منه التأكد من إخلاص المؤسسات للرسالة، ومسؤوليتها عن الأداء، والتزامها باللوائح والقوانين ذات العلاقة. ومن دون وجود النوع الأول، تفقد الحوكمة الغرض المنشود منها. وإذا ما فشل المجلس بعمله كجهة ائتمانية، يمكن أن تفسد المؤسسة أو حتى تنهار بشكل يعجز إصلاحه. وأما النوع الثاني فيعنى بالعمل الاستراتيجي الذي يمكّن المجالس (والإدارة) من تحديد أولويات المؤسسة ومسارها، ونشر الموارد طبقا لذلك. ومن دون وجود النوع الثاني، لن تكون للحوكمة قوة أو تأثير ملموس. فإذا ما أهمل المجلسُ الإستراتيجيةَ، يمكن أن تصبح المؤسسة غير فعالة أو غير مؤثرة. ويعتبر النوعين الأول والثاني شكلين مهمين جداً من أشكال الحوكمة. غير أن مجالس الإدارات التي تقوم فقط بالإشراف على الموجودات ومراقبة الإستراتيجية تقوم بالعمل اللازم، لكن هذا العمل لا يكفي لتغطية قيمة الحوكمة (بشكل عام) وقيمة الأمناء (بشكل خاص).
ويزداد مستوى فاعلية المجلس عندما يصبح الأمناء أكثر كفاءة في أكثر من مجرد هذه الأنواع. وعلى أية حال، فان المجلس الذي يتفوق في نوع (أو نوعين)، لكنه لا يكون كذلك في نوع آخر (أو نوعين) سوف لا يضيف قيمة كبيرة للمؤسسة مقارنة بالمجلس الذي يتميز بالقدرة على تنفيذ جميع الأنواع الثلاثة. وان الأمناء الذين يتميزوا بسرعة توجيه الموظفين للتفوق على المنافسين في الفطنة والعمل وحتى الإنفاق قد يأخذوا بنظر الاعتبار تكتيكاً إضافياً: وهو التفوق في حكم المنافسة. ومن اجل تحقيق قيمة اكبر، لابد لمجالس الأمناء أن ينوعوا في التدريب حتى لا يتسنى لذاكرة احد الأنواع أن تهيمن بما يؤثر سلباً على النوعين الآخرين. وعندما تفرط مجالس الإدارات في التأكيد على نوع واحد واستبعاد النوعين الآخرين (وهي مشكلة شائعة)، تكون النتائج النهائية حوكمة أسوأ، وليست أفضل.
وتعمل الأغلبية من مجالس الإدارات معظم الوقت أما ضمن إطار النوع الائتماني أو الاستراتيجي، حيث تعتبر هذه مناطق مريحة للأمناء. ومع ذلك، فان الكثير من المجالس أما لا يتغلبون على التحديات الكامنة التي يفرضها النوع الأول أو الثاني أو لا يستفادون من فرص القيادة العرضية التي تقدمها الحوكمة الائتمانية والإستراتيجية. ونتيجة إلى ذلك، نجد أن بعض إمكانيات المجالس لإضافة قيمة لا تنتهي بمحصلة ايجابية، بالرغم من مستوى تآلف ومعرفة الأمناء بالنوع المستخدم من نظام الحوكمة. غير انه ربما يتعين دفع ثمن أكثر جداً في حال تغاضي المجالس عن النوع الثالث أو ضعف أدائهم فيه وذلك لان النوع التوليدي (وهو النوع الثالث من أنواع الحوكمة)، يختلف عن النوعين الأول والثاني اللذان يشتملان فقط على لحظات بسيطة للقيادة، هو أساساً حول القيادة، كما انه يعتبر التربة الأكثر خصوبة لكي تزدهر المجالس كمصدر من مصادر القيادة.
وفي سياق الحوكمة والقيادة، يقع حكم المؤسسة على عاتق ثلاثة جهات وهي: المساهمين: المدراء أو الأمناء (المجلس الإشرافي)، والمدراء (وهم الجهة التنفيذية)، وذلك بدعم من قبل جملة من اللجان. وهذه الفئات الثلاثة هي التي تؤلف القيادة أو الفريق الحاكم، حيث تكلَّف كل واحدة منها بادوار ومهام محددة؛ وعليها جميعا أن تعمل سوية لضمان استدامة المؤسسة في المستقبل.
Comments